الاثنين، 18 نوفمبر 2024

بين أمواج القهر ورمال الصمود

الكاتب: Ahmadomari   بتاريخ :  2:34 ص   غزّة، فلسطين بدون تعليقات

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بين أمواج القهر ورمال الصمود




دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في تلك البقعة التي عانقت البحر، وترعرعت بين الصخر والصبر، وقفت الأخت العربية الجريحة تحمل في قلبها أثقال الدهر وجراح الأيام، تنظر صوب السماء، حيث لا تُمطر سوى القهر، كقطرات الندى فوق جراحها النازفة من مآسي الدهر.

كانت هناك وحدها، بين أنينها وصمودها، كأنَّ كُلّ ذرّة تراب تعاتب الأمّة، وكل حجر يئن محاكيا خذلانا عتيقا. وحدها تقف، تنزف من جراح الزمن، تشهد حكايات من خانوها وغادروا، تنتظر يدا تمتد إليها، أو كلمة تُحيي فيها نبضا من أمل تلاشى. طال الانتظار، وثقل الوجع كصخرة «سيزيف»، وكأن الغيوم هنا لا تمطر سوى الدموع.

أمّا إخوتها، فكأنّهم قلاع من صمت وجدران من الجفاء، كلٌّ يقف بعيدا، ينظر ثم يُشيح وجهه خشية أن تلامس عينيه ألمها. تذرّعوا بحجج واهية، كمن يحتمي بورق الخريف تذروه الرياح، أتقنوا لعبة الصّمت ودور المُتفرّج؛ يختبئون خلف ستائر الغفلة. لم يكترثوا لما أثقل كاهلها أو لما انكسر من قلبها، بل اكتفوا بتبرير البعد، وترديد أعذارا شاحبة ليقنعوا أنفسهم ببرود مُخجل.

ومع كُلّ هذا، لم تفقد الأخت الأمل بعودة أحدهم؛ سيعود يوما حاملا في قلبه دفئا وبيده سلاحا، يُغنيها عن ليال طالت كظلام «المعرّي»، مازالت تنتظر، شاهدة على خذلانهم وعجزها عن نسيانهم.

كان هناك أخٌ كبير، شامخ كالجبل، كالريح صرصر عاتية، كان أول من تتذكّره عند اشتداد الأزمات، لعلّه يأتي، لكنّه وقف ينظر من بعيد، كأنّما بينه وبين خطواته قيود نسجها العجز والغربة. حاولت أن تسترق من صمته نغمة حنين وذكرى تزيح عنها وطأة الانتظار، صوته الخافت جاء مأسورا خلف ستار من الحيرة:

 

يا أختاه، صبركِ صبر الجبال الرواسِ،

لم أبتعدْ، فأنا أخوكِ عمودُ الأساسِ،

لكن يديَّ تئنُّ من ثقلِ القيودِ،

كالرمل إذ يمتدُّ في ليلِ البأسِ

 

تردّد صوته في وجدانها كأصداء متلاشية في بحر وجعها؛ أحسّت أن صوته لا يصل إلى قلبها، كأنما شبحٌ يحاول عبثا أن يُسليها، لكنّها كانت تحتاج لأكثر من كلمات. أرادت أن تمتد خطواته إليها، لا أن يظلّ الصدى خلف الجدران.

أما الأخ الأقرب، الذي ظنّه الناس درعها وسندها، فقد بدا عاجزا كقلب يخشى أن يُجرح؛ كانت عيناه تتوهّجان أحيانا، لكنّه يتردّد، كأنّ سدودا تقف بينه وبين الاقتراب. ينظر إليها من مسافة كالسراب دون أن يخطو، ويردّد همسا كناي ضائع يبحث عن ألحانه المفقودة:

 

يا أختاه، قلوبُنا تشتكي وتُصدَعُ،

وألمك يسري في ضلوع من أسى،

تبقين في القلبِ، يا لحنَ الشجَن،

لكنَّ خطانا تتوارى، والصدى يتوجّعُ

 

كلماته تُدوي كصدى في أروقة الوجدان ثم تتبدّد، كشبح حلم عتيق. حاولت أن تتشبّث بأمل واهن أعجف. انسلّت كلماته  كالدخان، وتركتها أمام صمت مُطبق لا أُفق له.

وأما الثالث، ذو الهيبة يأخذه الزهو؛ يقف بينه وبينها فضاء مليئا بالفراغ، يحيط نفسه بهالة من القوة ولا يقترب؛ يرنوها بأعين كالزجاج خالية من أي تعبير، مكتفيا بإحساس العظمة يعتريه، وقال بصوت كالسيف بحدة وهمية:

 

يا أختاه، أنتِ النجم في الغياهب،

وأنا الدرع الذي يدرأ عنكِ النوائب،

لكنني مشغولٌ بأمر هنا،

وحين أعود، تجدين النصر كالواجب

 

كانت كلماته رماحا تخترق الصمت وتتركه مُمزّقا كالبلاء، تُغلّفها قسوة العبارات وتخفي وعودا باهتة لا تُداوي الضرّاء. كانت تعرف أن صوته لا يحمل صدقا، كأنّه مرثية تُخبئ خلفها أملا تائها في صحراء.

وفي الجانب الآخر، وقف أخٌ صغير، عيناه تلمعان بالوفاء، أقربهم إليها، يحاول مسح دمعها بالولاء، لكنّه مكبلٌ بعجزه، قال بنبرة حائرة، يختلط فيها القصور والإحباط والبكاء والرجاء:

 

يا أختاه، ما نفعُ القلبِ إذ يشتهي قربَكِ،

إن كانت يدي مكبّلة والقلبُ في حبّكِ،

يا زهرةَ الروحِ، يا لحنَ الهوى،

لكنَّ الخوف يُثني خطاي في طلبك

 

وأما الصغار؛ أولئك الأوفياء، فقد وقفوا حولها، كالأعمدة الصغيرة الصلبة التي تحاول تثبيت بنيانها، ناظرين إليها بعزم يملأ عيونهم، وقالوا بصوت واحد:

 

يا خالتي، عهدٌ لا ينكسرُ، ووفاءٌ ثابتٌ،

نحنُ الأوفياءُ وإن جارَ القدرُ،

سنظلُّ في وجهِ العدا صامدين،

فلا نخشى ظلاما، ولا ننكسرُ

 

كان وعدهم بلسم لجراحها، كأنّ خطواتهم الصغيرة كانت تُثبّت جذورها في الأرض من جديد. شعرت أنّ هؤلاء الصغار، دون غيرهم، هم من يحملون نبضها وشُعاع أملها لبناء بيتها وشدّ عضد بنيها، فأصواتهم الصافية تحمل عهدا لا تقوى رياح الغرب الطامعة على صدّه من حجم الوفاء.

كانت تتلفّت ذعرا، تسمع أصوات الصواريخ والدبابات تملأ السماء، تقتلع من الأرض كل ثبات، وتشعر بأن يدا غادرة تحاول اقتلاع الأمل من قلبها، وتُهدّد سلام أطفالها، كأنما يريدون قتل روحها ودفن أبنائها في رمال العزّة والنسيان.

وفي وسط هذا الجحيم، كان صوتها يُسمع وينقله الرياح ليصل إلى العالم أجمع؛ جُلّه منافق، كما لو أنّ الأرض تنطق بالحق كأهلها، أملا بتحقيق العدالة المفقودة.

تعاود تهمس بكلمات عجزت عن قولها، تَشقُّ الطريق بين الألم والأمل الضائع؛ تبتسم رغم الجراح، تُحّدق في الأفق، وتفكّر: كيف للموت أن يكون أقرب إلى الحياة؟ وكأنّ الحياة أصبحت حلما مجرّدا عزيز المنال، يموت تحت ضمائر الإنسانية المعدومة والنار والدمار.

وفي النهاية، أدركت أن هناك من يقف عند الخط الفاصل، لا يخشى الظلام ولا ينحني للعواصف مهما اشتدت؛ هناك من يظلّ صامدا من أبنائها كالصخر؛ بطلا عنيدا جلدا صنديدا، يصدُّ عنها قنابل الغدر وبارود التخاذل، كأنّه صوتٌ يناديها بعهد لا يموت ولا ينقضي؛ يحيى كالشهداء من جديد:

 

لا تخافي يا زهرةَ هاشم،

يا شوكة الأعداء،

يا أمل الأمناء،

نحن الحصن المتين،

وإن عزَّ الناصر، لنا فيكِ العيون،

سنظلُّ هنا، ولو أثقل الدهرُ،

فالمجدُ لا يزول، والجُرحُ لا يهونُ

 

حينها، وسط هذا الصدى، عرفت أنّ ميثاقهم بالإيمان والثبات صادق أكيد، كالنجم الثاقب؛ مهما تاهت الدروب أو ثقُلت الخُطى راسخ حتى الوعد المجيد.

لم يكن صمتها سوى شهادة على ضياع الهوية العربية، ونفاق الأمّة الإسلامية وإجرام الأنظمة الحقوقية الغربية، وزيف الشعوب الإنسانية. لم يكن خلفها إلّا عواصف الإسناد العتية، كانت عهدا مدويّا من الشمال والجنوب وهيجان العجاج والرسائل البحرية؛ خلفها النفوس الأبيّة، وإن بعُدت وفيّة تتوشّح العزّ والبندقية.

Ahmad.omari11@yahoo.de

الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى

 

 

رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى

 


 دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

تشكِّل رؤية «بنيامين نتنياهو» للشرق الأوسط الجديد تجسيدا لطموحات إسرائيليَّة تاريخيَّة في توسيع نفوذها والسيطرة على الأراضي الفلسطينيَّة، مستندة إلى أيديولوجيَّة صهيونيَّة تهدف إلى ضمِّ الأراضي المحتلّة وتحقيق الأمن القومي الإسرائيلي.

هذه الرؤية ليست جديدة، بل تمتدُّ لعقود منذ قيام دولة إسرائيل، حيث تبنَّى قادة إسرائيليون مثل «دافيد بن غوريون» وحتى «نتنياهو» سياسات مشابهة تسعى لتوسيع حدود الدولة على حساب الفلسطينيين.

 الجذور الأيديولوجيَّة والتاريخيَّة

يرجع هذا التوجُّه إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع ظهور الحركة الصهيونيَّة التي سعت لإنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين، معتبرةً أنَّ هذه الأرض هي «أرض الميعاد» التي وُعد بها اليهود دينيّا وتاريخيّا.

منذ ذلك الحين، سعت إسرائيل إلى ترسيخ سيطرتها على الأراضي الفلسطينيَّة، بما في ذلك الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة، بوصفهما جزءا لا يتجزَّأ من الدولة الإسرائيليَّة، وهي الرؤية التي تُعرف بـ «إسرائيل الكبرى».

في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي، صرَّح نتنياهو بوضوح أنَّ «السامرة» و «يهودا»، وهما الاسمان العبريان للضفة الغربيَّة، هما جزء لا يتجزَّأ من «أرض إسرائيل». لم يكن هذا التصريح مجرَّد تعليق سياسي عابر، بل يعكس استراتيجيَّة إسرائيليَّة طويلة الأمد تسعى لدمج هذه الأراضي ضمن حدود الدولة، متجاهلة الحقوق الفلسطينيَّة، حيث تكرِّس إسرائيل من خلال هذه السياسة رؤية مستقبليَّة تتضمّن الضمَّ التدريجي للأراضي الفلسطينيَّة، ما يمهِّد الطريق لتغيير جذري في الخارطة الجيوسياسيَّة للشرق الأوسط.

خارطة الشرق الأوسط الجديد

تشير بعض التحليلات الإسرائيليَّة إلى أنَّ رؤية نتنياهو تتجاوز مجرَّد ضمّ الأراضي الفلسطينيَّة، فهي جزء من خطة أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الإسرائيليَّة.

يرى المحلِّل الإسرائيلي «إيال زيسر» أنَّ هذه الخطة تسعى إلى بناء علاقات جديدة مع دول عربيَّة في إطار تحالفات أمنيَّة واقتصاديَّة تعزِّز موقع إسرائيل في المنطقة.

من جهةٍ أخرى، عرض نتنياهو، خلال خطابه أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة الجمعة 26 سبتمبر/أيلول 2024، خريطتين تظهران الضفة الغربية وقطاع غزّة كجزء من إسرائيل، الأولى باللون الأخضر للدول التي تربطها معها اتفاقيات تطبيع وأخرى قاب قوسين أو أدنى، وضمّت مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، وكُتب على الخريطة الأولى كلمة «البركة»، وعلى الخريطة الثانية كلمة «اللعنة».

هذه الرؤية تتوافق مع خطة «صفقة القرن»، التي اعتبرتها العديد من الدول وسيلة لتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة، حيث يُنظر إلى الحدود المقترحة على أنَّها تسعى لتغيير الخريطة السياسيَّة لتشمل الأردن وأجزاء من السعوديَّة ومصر وسوريا ولبنان.

في حين دعمت الولايات المتحدة إسرائيل لتحقيق أهدافها التوسّعيَّة، فإنَّ روسيا والصين أبدتا مخاوفهما من أن يؤدي الضمُّ الإسرائيلي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.

العديد من المحلِّلين السياسيين الأوروبيين يعتبرون أنَّ هذه الرؤية الإسرائيليَّة تمثِّل تهديدا للأمن الإقليمي، وقد تقود إلى مزيد من التوترات مع الدول المجاورة، خاصَّة الأردن ومصر، اللتين قد تتأثَّران بشكل مباشر من هذه التغيرات الجيوسياسيَّة.

الأوضاع الإنسانيَّة في غزّة

بالتوازي مع هذه الرؤية التوسّعيَّة، تعيش غزّة حرب إبادة وتطهير عرقي، فضلا عن الأزمةً الإنسانيَّة الخانقة نتيجة الحصار المستمرِّ والعمليات العسكريَّة الدائمة المتكرِّرة، حتى أنّها أصبحت أداة قتل بالتجويع. في شمال غزّة على وجه الخصوص، يعاني المدنيون من نقص شديد في المساعدات الإنسانيَّة، حيث تتعرَّض المستشفيات للحصار والقصف والدمار، مما يُفاقم القتل المُمنهج جرّاء ذلك.

تشير التقارير الواردة من وزارة الصحة الفلسطينيَّة إلى أنَّ عدد القتلى والإصابات قد ارتفع بشكل كبير، بينما تُمنع فرق الإنقاذ من إيصال الجرحى إلى المستشفيات. هذا الوضع الإنساني الكارثي يُستخدم كأداة ضغط سياسيَّة لتحقيق أهداف إسرائيليَّة أوسع، حيث يسعى الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ «خطة الجنرالات» التي تهدف إلى تهجير السُكّان الفلسطينيين قسريّا من شمال غزّة، ما يمهِّد الطريق لإعادة احتلال المنطقة وبسط السيطرة عليها.

الاغتيالات الإسرائيليَّة للقيادات الفلسطينيَّة

جزء آخر من سردية إسرائيل لترسيخ نفوذها يتجلّى في استخدام سياسة الاغتيالات كوسيلة للقضاء على القيادات الفلسطينية، فهي تعتقد أنّ التخلّص من قيادات المقاومة الفلسطينية يعني بالضرورة إنهاء المقاومة بشكل عام.

هذه الفكرة تجسّدت في التصريحات الأخيرة التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وأوروبيين، حيث طالبت هذه الأطراف بإعادة الأسرى الإسرائيليين بعد استشهاد يحيى السّنوار، مما يعكس اعتقادهم بأن المقاومة مرتبطة ارتباطا وثيقا بشخصيات معينة.

تسعى الحكومة الإسرائيلية من خلال سياستها المتمثّلة في اغتيال قادة المقاومة إلى تحقيق تصورها بأنّ القضاء على الأفراد يمكن أن يؤدّي إلى تقويض الحركة المقاومة برُمّتها. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تُظهر تجاهلا عميقا للواقع المعقّد الذي يواجه القضية الفلسطينية، حيث إن المقاومة ليست مجرّد ظاهرة تتعلّق بشخص، بل هي نتاج احتلال مقيت وأطول في التاريخ الحديث، تزامنا مع ظروف تاريخية واجتماعية ودينية وسياسية عميقة تتجاوز الأفراد.

أحد الأمثلة الدالة على ذلك هو رئيس المكتب السياسي لحركة المقامة الإسلامية حماس، يحيى السّنوار، الذي كان مستهدفا في محاولات الاغتيال الإسرائيلية، والشيء الذي لم تحسب إسرائيل له حسابا هو أنّ استشهاد السّنوار جعل منه رمزا وأيقونة في تاريخ المقاومة في العالم وليس في فلسطين والعالم العربي والإسلامي حصرا.

الصور التي تم تداولها بعد استشهاد يحيى السّنوار مُشتبكا عصفت بالقيادة الإسرائيلية وجيشها الهادف إلى إضعاف المقاومة واحباطها عبر قتل قائدها، وبدلا من هزّ صورته وتقويض المقاومة من خلاله، آل السّنوار ضميرا حيّا ومضربا للمثل بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وروح مقاومة ومُلهمة عابرة للقارات.

تُعدُّ هذه الاغتيالات جزءًا من حملة إسرائيليَّة بائسة أوسع تهدف إلى إضعاف المقاومة الفلسطينيَّة وتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة على الأرض، وهو ما ينسجم مع رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد.

 تسريبات هآرتس حول الخصخصة في غزّة

في سياق التوسُّع الاستيطاني الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين، تسعى حكومة نتنياهو إلى تحقيق استراتيجيات تتضمَّن السيطرة على مساحات واسعة في الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة. في هذا الصدد، تتكشَّف خططٌ جديدة تعكس نوايا إسرائيليَّة أعمق لإعادة تشكيل المشهد السياسي والعسكري في المنطقة.

في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024، كشفت الصحفية «نوا لانداو» عن تسريبات خطيرة تؤكِّد أنَّ نتنياهو يسعى لخصخصة الحكم في غزّة. ووفقًا لهذه التسريبات، فإنَّ الخطة تهدف إلى نقل السيطرة المدنيَّة في قطاع غزّة إلى شركات خاصّة مثل شركة «GDC» الإسرائيليَّة - الأمريكيَّة، وهي شركة لها تاريخٌ طويلٌ في العمل بالمناطق التي خضعت للاحتلال، مثل العراق وأفغانستان.

يأتي هذا في إطار سياسة إسرائيليَّة قديمة تستهدف إبعاد المسؤولية القانونيَّة والأخلاقيَّة عن إسرائيل عبر تسليمها إلى شركات خاصّة ذات مصالح ماليَّة، بما يُؤدِّي في النهاية إلى تقويض السلطة الفلسطينيَّة ومنعها من استعادة السيطرة في القطاع.

وتشير «لانداو» في مقالها إلى أنَّ هذه الاستراتيجيَّة تعتمد على تدمير البنية التحتيَّة، وتهجير السُكّان، وخلق مواقع عسكريَّة جديدة، مما يجعل المنطقة تواجه مستقبلا مليئا بالفوضى والاستيطان، وهو ما تعتبره «وصفة مؤكّدة للكارثة القادمة».

الحاجة إلى موقف عربي موحَّد

إنَّ ما يحدث اليوم في غزّة والضفة الغربيَّة من قصف متواصل، وعمليات قتل ممنهجة، وتدمير للمدن، يشكِّل صورةً قاتمة عن إبادة جماعية في عصر الحقوقية وانتهاكات حقوق الإنسان التي يجب أن تقف أمامها الدول العربيَّة والعالمية وجميع أحرار العالم.

إنَّ الفظائع التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، من أبادة وقتل بالتجويع وتهجير قسريّ إلى تدمير كامل للبنية التحتيَّة؛ لا يقف خلفها حرب تقليدية، بل هي جرائم حرب ضدّ الإنسانيَّة؛ تتطلَّب تحركً عاجلا وجادّا من المجتمع الدولي.

يجب على القادة العرب أن يُدركوا أنَّ السكوت عن هذه الجرائم يُعدُّ بمثابة تواطؤ صريح، وأنَّ الوحدة العربيَّة يجب أن تتجاوز الشعارات لتتحوَّل إلى خطوات فعليَّة لدعم الشعب الفلسطيني، لا بل أصبح تشكيل جبهة عربيَّة متضامنة ضرورة مُلحّة، تعبِّر عن موقف حازم ضدَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة والقتل اليومي، وتُعزِّز من الجهود الرامية إلى تقديم الدعم الإنساني العاجل وإنهاء الحرب الدامية، وتبنِّي حلول سياسيَّة شاملة تُعيد الحقوق الفلسطينيَّة وتضمن لهم تحقيق العدالة.

إنَّ التصدي لهذه الأزمات يتطلَّب إرادةً سياسيَّة حقيقيَّة، واستراتيجيَّة موحَّدة تحمي الأمن القومي العربي وتؤكِّد على أنَّ فلسطين ليست مجرَّد قضية شعب مضطهد، بل هي رمزٌ للكرامة الإنسانيَّة، وحقٌّ الفلسطيني في العيش على أرضه وتحت سيادته بسلام وأمان.

بقاء الدول العربيَّة متفرّجة على مأساة إنسانيَّة بهذا الحجم عار لن يمحيه التقادم.

ahmad.omari11@yahoo.de

السبت، 26 أكتوبر 2024

يحيى السنوار: مسيرة قائد مقاوم وسيرة نضال حتى الشهادة

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يحيى السنوار: مسيرة قائد مقاوم وسيرة نضال حتى الشهادة

 


مع اقتراب فجر الأمس، ومع تسارع الأنباء من مختلف المصادر، تأكَّد لنا نبأ استشهاد «يحيى السنوار»، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في قطاع غزّة.

هذا القائد الذي قضى حياته في النضال والمقاومة، يضيف باستشهاده فصلا جديدا إلى ملحمة النضال الفلسطيني المستمرّة منذ عقود.

السنوار لم يكن مجرّد قائد عسكري، بل كان رمزا للتحرّر الوطني الفلسطيني؛ عاش حياته ملتزما بتحقيق العدالة والحرية لشعبه. ومن رحم الفقر والمعاناة، صعد هذا القائد ليغدو من أبرز رموز الكفاح الوطني، وعلى الرغم من استشهاده، فإن إرثه سيظل خالدا في ذاكرة الشعب الفلسطيني والعربي الذي لطالما وجد فيه وأمثاله مصدر إلهام ودافع للاستمرار.

 

من خان يونس إلى قمة القيادة

وُلِدَ يحيى السنوار في عام 1962 في مخيم خان يونس للاجئين في جنوب قطاع غزّة. كان هذا المخيم شاهدا على معاناة آلاف العائلات الفلسطينية التي هُجِّرت قسرا من أراضيها بعد النكبة عام 1948. لم يكن السنوار استثناء، فقد عاش طفولته في ظروف قاسية من الفقر والتهميش، وفي بيئة كانت تمتلئ بالحكايات عن العودة والحرية.

هذه المعاناة لم تكن سوى وقودا لأفكار السنوار في المقاومة والنضال، حيث كان يدرك منذ نعومة أظفاره أن الطريق نحو الحرية مليء بالتحديات.

 

منذ سنواته الأولى، شارك السنوار في أنشطة وطنية واجتماعية، حيث انخرط في الحركات الطلابية الفلسطينية التي كانت تُعبِّر عن الرفض للاحتلال الإسرائيلي، وتدعو لتحرير فلسطين. هذا النشاط المبكر كان بمثابة الخطوة الأولى نحو انضمامه لحركة «حماس» بعد تأسيسها في عام 1987. خلال هذه الفترة، كان الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة يشهد انتفاضة شعبية كبيرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما زاد من تأثير الحركات الإسلامية والوطنية على الشارع الفلسطيني.

 

النضال العسكري وتأسيس كتائب القسَّام

بعد انضمامه إلى حركة حماس، أصبح السنوار من أوائل الذين تبنوا الفكر المقاوم الذي يدعو إلى الكفاح المسلّح ضد الاحتلال. سرعان ما برز السنوار كأحد القادة الشباب بفضل قدراته التنظيمية والعقل الاستراتيجي الذي يتمتع به، ومن خلال دوره القيادي، ساهم السنوار في تأسيس كتائب الشهيد «عز الدين القسَّام»، التي تعتبر اليوم الذراع العسكرية لحركة حماس.

كان السنوار مؤمنا بأن المقاومة المسلّحة هي السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة، وقد أظهر قدرة فائقة على تنظيم العمليات العسكرية ومواجهة الاحتلال.

 

خلال فترة تأسيس كتائب القسَّام، تمكَّنت الحركة من بناء قاعدة عسكرية صلبة، حيث أصبحت الكتائب مع مرور الوقت قوة عسكرية معترف بها ليس فقط على الصعيد الفلسطيني، ولكن أيضا في معادلة الصراع الإقليمي.

دور السنوار في تطوير هذه القدرات العسكرية كان حاسما، حيث كان يعمل على تعزيز المقاومة بالعتاد والخطط الاستراتيجية، ما جعل الاحتلال الإسرائيلي ينظر إليه كأحد أخطر قادة المقاومة.

 

الاعتقال والسجن: فترة صقل العزيمة

في عام 1988، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي القبض على السنوار وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة أربع مرّات؛ أمضى منها 24 عاما في السجن بتهمة تنظيم عمليات مسلّحة ضد أهداف إسرائيلية.

رغم وجوده خلف القضبان، لم يتراجع السنوار عن مبادئه، بل استمر في دوره القيادي داخل السجون الإسرائيلية، وقد قضى ما يقارب 24 عاما في سجون الاحتلال، وكانت تلك الفترة بالنسبة له فرصة لتعزيز صموده وإلهام زملائه الأسرى.

 

خلال فترة سجنه، كان السنوار يشكل قدوة للأسرى الآخرين، حيث لقّبوه بـ «شيخ المجاهدين»، واستمر في توجيه القادة الشبان والمقاومين حتى من داخل زنزانت، ورفض أي محاولة من الاحتلال لإضعاف عزيمته، وظل متمسكّا برؤية المقاومة كخيار وحيد لتحرير فلسطين.

 

تحريره وصفقة شاليط

في عام 2011، تم إطلاق سراح السنوار ضمن صفقة تبادل الأسرى الشهيرة التي عرفت بـ «صفقة شاليط»، وهي واحدة من أكبر صفقات التبادل بين حماس وإسرائيل، والتي تم بموجبها الإفراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط».

هذه الصفقة أعادت السنوار من معتقل لدى إسرائيل إلى زعيم مقاومة، حيث موقعه الطبيعي كقائد لحماس في غزّة، ليعود إلى إلى العمل السياسي والعسكري على حد سواء.

عودته كانت بمثابة بداية جديدة في مسيرته النضالية، حيث عمل على تعزيز صفوف المقاومة وتطوير قدراتها في وجه التحديات المتزايدة.

 

القيادة السياسية بعد التحرير

بعد إطلاق سراحه، عاد السنوار ليشغل مناصب قيادية في الحركة. وفي عام 2017، انتُخب رئيسا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزّة.

هذه الفترة كانت مليئة بالتحديات، فقد كان القطاع يعاني من حصار خانق، إلى جانب تصاعد التوترات مع الاحتلال الإسرائيلي، إلّا أن السنوار أظهر براعة في المزج بين العمل العسكري والسياسي، حيث قاد مفاوضات مع عدة أطراف دولية وإقليمية بهدف تخفيف الحصار عن غزّة دون تقديم أي تنازلات تمس بالمبادئ الأساسية للمقاومة.

 

رؤية إسرائيلية للسنوار

من وجهة نظر الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن يحيى السنوار مجرّد قائد عادي في حماس، بل كان يُعد «العدو الأول» بالنسبة لهم، فقد كان السنوار يمثّل تهديدا مباشرا لإسرائيل، حيث وصفه العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين بأنّه «عقل استراتيجي» يتمتع بقدرة هائلة على التخطيط والتكتيك، فكانت عمليات المقاومة التي شارك في تنظيمها تثير الخوف والهلع والقلق لدى الدوائر الأمنية الإسرائيلية.

 

لقد وصف الجنرال السابق ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي «غادي آيزنكوت» السنوار بأنه «خصم ذكي» و«قائد يمتلك رؤية استراتيجية»، مشيرا إلى قدرته على إدارة العمليات العسكرية بفعالية واستغلال نقاط القوة لدى حماس.

كما تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي السابق «بني غانتس» عن السنوار باعتباره «عقل المدبّر» للعمليات العسكرية لحماس، مؤكّدا أنّه يتمتع بقدرة فائقة على التنظيم وإدارة الأزمات. ومن جانبه، أشار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي «أفيف كوخافي» إلى أن السنوار يلعب دورا محوريا في تعزيز قوة حماس العسكرية، ويعتمد على استراتيجيات مبتكرة لمواجهة التحديات. كما اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي «يوآف غالانت» السنوار شخصية بارزة في الساحة الفلسطينية، موضحا أن تفكيره الاستراتيجي يمثل تحديا كبيرا لإسرائيل.

 

بالإضافة إلى ذلك، أشارت العديد من التقارير الاستخباراتية إلى أن السنوار يتمتع بذكاء عاطفي عال وقدرة على التأثير في الجماهير، مما يجعله شخصية مهمة في الحركة الفلسطينية والمواجهة مع إسرائيل.

 

 

الاستشهاد والرمزية القتالية

استشهاد يحيى السنوار يمثل هزيمة نفسية لإسرائيل رغم النصر العملياتي الذي قد تحاول تصويره، فوفقا للرواية الإسرائيلية غير الرسمية، استشهد السنوار في مواجهات مباشرة مع قوَّة إسرائيلية في تل السلطان بمدينة رفح، ولم يكن مختبئا في نفق كما ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذا الأمر يضرب السردية الإسرائيلية التي كانت تحاول تصويره كقائد هارب أو مختبئ، إذ إنه مات وهو يقاتل بسلاحه في يده، مما يمنحه بطولة إضافية ويعزِّز رمزيته كشخصية مقاومة حتى اللحظات الأخيرة.

 

إرث يحيى السنوار

في المجمل، يمثّل يحيى السنوار رمزا للثبات والمقاومة الفلسطينية في عصر تتزايد فيه التحديات، إذ يجسّد نضاله ومواقفه الثابتة دفاعا عن القضية الفلسطينية، ويدل على إرادة شعب يرفض الاستسلام.

لقد أصبح السنوار ليس فقط قائدا عسكريا، بل رمزا يُلهم الأجيال القادمة في سعيها لتحقيق الحرية والعدالة لتحرير فلسطين ومُقدّساتها.

ستبقى ذكراه خالدة في قلوب الفلسطينيين والعرب، وستستمر إرادته النضالية في إلهام الأجيال القادمة للتمسّك بحقوقهم. إن استمرار صموده وعزيمته في وجه الاحتلال طوال سنوات نضاله يعكس الأمل المتجدد في تحقيق الحلم الفلسطيني والعربي، مما يجعله شخصية محورية في التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي المعاصر.

 

يحيى السنوار، بكل ما يمثّله، هو شهادة على أن القضايا العادلة لا تموت، ومعها تحرير فلسطين التاريخية، مما يثبت أن العزيمة والإصرار يمكن أن تُحدثا تغييرا حقيقيا في وجه الظلم المُتمثّل باحتلال فلسطين والتنكيل بأهلها.

 

وقد بشر الله سبحانه وتعالى أولئك الرجال في الآخرة فقال: «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه»، كما قال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ».

 

إنّا لله وإنا إليه راجعون في شهيد الأمّة العربية والإسلامية

 

 


 

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

إسرائيل ودورها كمُستعمر في الشرق الأوسط/أحمد سليمان العُمري

إسرائيل ودورها كمُستعمر في الشرق الأوسط

خريطة الشرق الأوسط الجديدة

 

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

يعيش الشرق الأوسط توترا مستمرا؛ تُغذّيه إسرائيل، وهي منذ تأسيسها أداة في يد القوى الغربية لتعزيز الاستعمار في هذه المنطقة.

إن دور إسرائيل في الإقليم لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لمخطط استعماري غربي بدأ منذ إنشاء الدولة الإسرائيلية، بهدف تحقيق السيطرة الغربية على قلب العالم العربي، لذلك لا يمكن فصل الأحداث الراهنة عن تاريخ طويل من التدخّلات والسياسات الاستعمارية التي فرضها الغرب، حيث كانت إسرائيل وما تزال جزءا من هذا المشروع.

 

قد تجلّى هذا الاستعمار الجديد بوضوح في الفترة التي تلت نهاية الحقبة الاستعمارية البريطانية في فلسطين، حيث تم إنشاء دولة إسرائيل في 15 مايو 1948، بعد يوم واحد من انتهاء الانتداب البريطاني.

 

هذه النقطة تعكس بوضوح كيف استمر الاستعمار بأشكال جديدة، حيث تم استخدام المشروع الصهيوني كذريعة لتثبيت وجود دولة استعمارية في قلب العالم العربي.

لقد استخدم الغرب، وبالتحديد أوروبا، إسرائيل كأداة لتحقيق مصالحهم، مُستغلّين العجز العربي ومشاريع الحركة الصهيونية كوسيلة للسيطرة واستمرارية بسط النفوذ. وقد كان المؤتمر الصهيوني الذي عقده «تيودور هرتزل» يوم 29 أغسطس/آب عام 1897 في مدينة «بازل» بسويسرا بداية خطوات تنفيذية لهذا المشروع الاستعماري، حيث أصبح واضحا أنّ إسرائيل لم تكن مجرّد دولة جديدة؛ أقيمت بقرار اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، والدور الأمريكي البارز في دعم هذا القرار، حيث صوتت لصالحه وساندت إنشاء دولة إسرائيل، بل كانت وسيلة لتحقيق أهداف القوى الاستعمارية.

يعكس هذا التوجه بوضوح استمرار الاستعمار الجديد الذي يمزج بين القوة العسكرية والسيطرة الاقتصادية، ممّا يُعزّز مكانة إسرائيل كداعم لمصالح القوى الغربية.

 

غطرسة السياسة الإسرائيلية

ساسة إسرائيل المتطرفون، مثل بنيامين نتنياهو، لم يستطيعوا خلق سلام دائم في المنطقة، والدعم الأمريكي والأوروبي غير المشروط والضغط من اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة على الإدارة الأمريكية جعل هؤلاء السياسيين يتصرّفون بعنجهية، ممّا أدّى إلى تجاهل العديد من المبادرات العربية والأمريكية للسلام، مثل المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف القتال في غزّة، وهو المُقترح الإسرائيلي بالأصل؛ الذي تنصّل منه نتنياهو فيما بعد وأحرج بايدن.

لقد تجاوزت الحكومة الإسرائيلية إدارة بايدن، ممّا أثر سلبا على مصداقية السياسة الأمريكية في المنطقة. وتظهر هذه السياسة الخرقاء كيف أن إسرائيل تتجاهل الحاجة إلى التفاوض والتسوية.

 

علاوة على ذلك، أصبحت إسرائيل درعا تحمي المصالح الغربية في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي قاله نتنياهو في

خطابه علانية أمام الكونغرس الأميركي: «إنّ انتصار إسرائيل سيكون انتصارا للولايات المتحدة؛ نحن لا نحمي أنفسنا فقط. نحن نحميكم، أعداؤنا هم أعداؤكم، معركتنا هي معركتكم».

ويشير العديد من المُحلّلين السياسيين أنّ بلطجة نتنياهو وحكومته الغلاة المُتطرّفين ستقود إلى انهيار الدولة الإسرائيلية نفسها، حيث أنّ الاستمرار في سياستها العسكرية والاحتلال لن يؤدّي إلّا إلى خلق جيل مقاوم جديد، أكثر شراسة وجلدا، فقد خلّفت حرب الإباداة الإسرائيلية جيلا برُمّته، سينشأ دون والدين، فقد عاصر أبشع وأفظع صور القتل والتنكيل، فضلا عن زيادة الانقسامات في الداخل الإسرائيلي، جرّاء الإخفاقات العسكرية في قطاع غزّة والآن في لبنان، والتي سوّق لها رئيس الحكومة الإسرائيلي بسبب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ومن بعدها أردف باغتيالات؛ طالت قادة حزب الله، ومعهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله على أنّها انتصار، حتى فوجئ الشارع الإسرائيلي قبل أيام بخيبة الأمل والرعب والذعر من الصواريخ الباليستية الإيرانية، ليتحوّل ما كان بالأمس نصرا إلى هزيمة مدوّية.

الانهيار المحتمل لإسرائيل 

تواجه إسرائيل أزمة عميقة ناجمة عن مجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية التي تُهدّد استقرارها. من أبرز هذه التحديات الأزمات العسكرية المستمرّة في قطاع غزّة ولبنان، والتي أدّت إلى ارتفاع تكاليف العمليات العسكرية بنسبة 30% وتأثيرها السلبي على الاقتصاد وزيادة الدين العام الذي وصل إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لتحليلات من بنك إسرائيل.

يشير «أورين حازان»، نائب رئيس الكنيست سابقا، إلى أنّ «العمليات العسكرية المتكرّرة تُثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي وتُساهم في تآكل الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الأزمات». كما تزايدت التهديدات الإيرانية، بما في ذلك إطلاق مئات الصواريخ الباليستية، ممّا يستدعي من الحكومة زيادة الإنفاق العسكري الذي ارتفع بنسبة 15% في السنوات الأخيرة وتوسيع التعاون الأمني مع الولايات المتحدة.

تستدعي هذه التهديدات إعادة النظر في الخطط الأمنية، مع تعزيز برامج الدفاع مثل القبة الحديدية، التي كلّفت الدولة نحو 2 مليار دولار. ويشير الخبير الأمني «رون بن يشاي» إلى أنّ «إيران تلعب دورا محوريا في زعزعة الاستقرار، ممّا يتطلّب إعادة تقييم الأولويات المالية».

إضافة إلى الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، مثل ارتفاع تكلفة المعيشة بنسبة 20% والبطالة التي وصلت إلى 6.3%، وارتفاع معدلات الفقر إلى 22%، حسب تقارير مؤسّسة التأمين الوطني الإسرائيلي، ما يزيد من الانقسامات الاجتماعية والاستياء العام ويُهدّد الاستقرار الداخلي.

تتضافر هذه العوامل لتُشكّل بيئة معقّدة، قد تفضي إلى انهيار محتمل لدولة إسرائيل، في ظلّ التحديات السياسية والاقتصادية والموجهات العسكرية، التي تشهدها الحدود اللبنانية بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، ما يُفاقم من حالة التوتر الأمني.

 

استخدام التصعيد كستار لفشل نتنياهو

الواقع الحالي يشير إلى أنّ حكومة نتنياهو تستخدم التصعيد العسكري كوسيلة لتغطية فشلها، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة أنّ استمرار العمليات العسكرية لم تُحقّق غير مظاهر نصر خادعه، يسعى الأخير لفرضها على المشهد، والوضع الميداني الشائك يعكس ذلك، مع أخذ تزايد الانتهاكات الإنسانية في شمال الضفة الغربية بعين الإعتبار، آخرها المجزرة التي استخدم بها جيش الاحتلال مقاتلات لقصف مخّيم طولكرم، والتي أسفرت عن استشهاد 18 فلسطينيا، بينهم أطفال وعشرات الإصابات، وتعتبر هذه الغارة هي الأول من نوعها في الضفة منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، إضافة إلى تدمير البنى التحتية في المُدن الشمالية الفلسطينية مثل طولكرم ونابلس وجنين، حيث يقوم الجيش الإسرائيلي بقطع مجاري المياه والكهرباء وتجريف الشوارع ما يؤدّي إلى هدم كُلّ مقوّمات الحياة.

منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، مرورا بمبادرة السلام العربية لعام في 28 مارس/آذار 2002، لم تتحقّق أي بادرة منشودة للسلام، لا بل خيبات أمل عربية وفلسطينية مؤلمة. فبينما سعت الدول العربية إلى تحقيق سلام شامل؛ لم تُقدم إسرائيل أي مبادرات تساهم في تحقيق السلام، إنّما استمرت في نهجها القائم على التطرّف والاحتلال والقتل وتوسيع البؤر الإستيطانية.

في هذا السياق، يمكن القول بأنّ الوضع قد أصبح أكثر تعقيدا، حيث يزداد التهديد الإسرائيلي بالتهجير الطوعي والضغط على الفلسطينيين بالتنكيل في ظلّ غياب أي أفق للحل ودور الأمم المتحدة غير الفاعل والدور الدولي المُعطّل.

فخلال حرب الإبادة في غزّة زادت حدّة الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث تضاعفت أعداد البؤر الاستيطانية، ممّا زاد من الاستيلاء على الأراضي وتهجير الفلسطينيين. وبدلا من التوجه نحو السلام، استخدمت إسرائيل هذه الاتفاقيات كفرصة لتكريس احتلالها وفرض سياسة الأمر الواقع، متجاهلة جميع المطالب العربية والفلسطينية والقرارات الأممية ومحكمة العدل الدولية.

انتهاكات المقدسات الإسلامية

كذلك الانتهاكات مستمرّة للمقدسات الإسلامية، مثل المسجد الإبراهيمي في الخليل والمسجد الأقصى في القدس، حيث تتعرّض لاقتحامات مستمرّة من قبل المستوطنين وإقامة صلوات تلمودية، في غياب أي تحرك جاد من قبل جامعة الدول العربية أو منظمة التعاون الإسلامي والمجتمع الدولي.

وبالرغم من أنّ 148 دولة قد وافقت على إقامة دولة فلسطينية من أصل 193 دولة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، إلّا أنّ إسرائيل، تحت قيادة نتنياهو وحكومته المتطرّفة، ترفض رفضا قاطعا فكرة وجود دولة فلسطينية، ما يعكس نيتها الواضحة في إدامة الاحتلال والاستمرار في سياسات الاستيطان والقمع لتغيير الواقع الديمغرافي وطمس الهوية الفسطيينية.

إنّ استمرار هذه الانتهاكات وسياسة التسلّط والتحدّي التي يتبناها نتنياهو وحكومته بدعم أمريكي وغربي تُبرز دوره في تهميش قرارات الأمم المتحدة ومحكمة الأمن الدولية القاضية بإنهاء الإحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس.

التصعيد الإقليمي وأثره على الصراع

لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جديد إلى التوراة لتبرير وتفسير العدوان الذي تشُنّه إسرائيل على فلسطين ولبنان وحينا اليمن وسوريا، متوعّدا بتغيير المعادلات في المنطقة. فقد صرّح: «كما هو مكتوب في التوراة سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم (...) نعمل بمنهجية على اغتيال قيادات حزب الله وتغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط كله«.

في الأيام الأخيرة، شهدت الساحة الإسرائيلية تصعيدا في الحرب وتوسّعا في ساحته، والتي انتهت بالاجتياح البري والغارات الجوية المتواصلة لبنان؛ أعقبها الرّدّ الإيراني الموجع على إسرائيل نتيجة اغتيال إسماعيل هنية، ممّا ينذر بإمكانية نشوب حرب إقليمية قد تشعل المنطقة.

خاتمة

إنّ استمرار السياسات الإسرائيلية المتطرّفة، مدعومة من قبل الولايات المتحدّة والدول الأوروبية، لا يُهدّد فقط وجود الفلسطينيين ودول المنطقة، بل يُعرّض أيضا مستقبل إسرائيل للخطر ويضعها على حافة الانهيار، في ظلّ عدم استجابتها لمطالب السلام العادل والتجاهل المستمر لحقوق الفلسطينيين.

إنّ أمريكا والدول الغربية الداعمة لإسرائيل بشكل غير مشروط، في حقيقة الأمر، تودي بإسرائيل إلى التهلكة، فإلى جانب الفلسطينيين الذين يعانون تحت الاحتلال واللبنانيين المتضرّرين من القمع والهجمات الإسرائيلية، فإنّ الإسرائيليين يعيشون بحالة حرب، حيث يُستخدمون كدروع بشرية من قبل أمريكا وأوروبا لتنفيذ مشاريع استعمارية وإبقاء هيمنتهما في المنطقة، مع فوارق البطش والإبادة الإسرائيلية.

 

وفي هذا السياق، يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أنّ استمرار هذه السياسات سيقود إلى مزيد من الانقسام والعنف، الأمر الذي يهدّد استقرار المنطقة بأسرها.

إنّ اتخاذ خطوات جادّة نحو السلام العادل والمستدام هو الخيار الوحيد لضمان مستقبل أفضل للجميع، الأمر الذي لا تسعى لتحقيقه أمريكا والغرب وأداتهم الإسرائيلية في فلسطين، والتي تعمل على إشعال الحروب وتُنذر بدمار الشرق الأوسط.

Ahmad.omari11@yahoo.de

Back to top ↑

كلمات من العمري

في بداية خطابي أشكر زائريّ ممن بحث عني بأسمي أو دخل منزلي صدفة فراق له البقاء. وجزيل شكري لكل أصدقائي وأحبتي ممن يعملوا في الخفاء لنشر كلماتي دون تقديم أشخاصهم، إيمانهم بها أو بي وإن زل قلمي حيناً يقينهم إذعانَ قلبي وعقلي لها. لقد ترددت كثيرا قبل أن أفتح هذا الباب الذي عمل عليه صديقي الأستاذ أنس عمرو وصديقي الدكتور ضياء الزعبي - جزاه الله كل الخير- ولم يتركني حتى كَمُل على وجه رضيناه للأخوة القراء الكرام ... المزيد
كن على تواصل واتصال معنا

© 2018 أحمد سليمان العمري.
Design By: Hebron Portal - Anas Amro .