الجمعة، 22 أغسطس 2025

أنس الشريف: من ارتقاء مُعلّق إلى شهيد مُحقق/أحمد سليمان العُمري

بسم الله الرحمن ا لرحيم 

أنس الشريف

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في ظلّ الحصار والدمار، كان أنس الشريف يعيش حالة استثنائية: شهيد مع وقف التنفيذ. تلك العبارة التي نطق بها قبل أيام قليلة من استشهاده تعبّر حصراً عن معاناة الإنسان الفلسطيني الغزّي، لا بل وعن فلسفة حياة في قطاع غزّة واختياراً أخلاقياً مهيباً.

رفض أن يلوذ بالنجاة السهلة، ورفض مغادرة غزّة التي تُذبح أمام عينيه.

وكأنّ لسان حاله كان يقول:

«إذا رحلتُ، فاعلموا أني اخترت البقاء لأن نقل مأساة القطاع والكاميرا الآن هما سلاحي؛ لن أتخلّى عن حقي في أن أصرخ بالحقيقة حتى لو كلّفني ذلك روحي. ارووا شهادتي بالدم، واقرأوا غزّة في عيون أطفالها الجوعى، فهي القصّة التي لا يريدون للعالم أن يسمعها».

حيث الأطفال يُعدمون بصمت في بيوتهم، وحيث مجاعة تقتل بالمئات يومياً، وحيث الصراخ الإنساني لا يجد من يسمعه. ظلّ أنس يعمل على توثيق الواقع المرير بشجاعة، مدافعاً عن الحقيقة كأعلى درجات النضال، وهو يدرك أن العدوان الإسرائيلي لا يقتصر على القصف، بل يستهدف بالدرجة الأولى من ينقلون الفظاعات بحق الغزّيين والإبادة الإسرائيلية.

استشهد أنس في قصف غادر مع زميله محمد قريقع، تاركين خلفهما سيرة من المهنية والشجاعة والتضحية في وجه آلة الحرب.

دماء الصحفيين

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في 7 أكتوبر 2023 وحتى ارتقاء فريق الجزيرة الإعلامي قبل يومين، الذي فقد المراسلين أنس الشريف ومحمد قريقع، بالإضافة إلى المصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل؛ بلغ عدد شهداء شبكة الجزيرة 11 صحفيا. أمّا إجمالي الصحفيين الفلسطينيين الذين ارتقوا في القطاع فقد تجاوز 238 شهيدا، جميعهم قضوا بنيران الاحتلال، مما يعكس حجم المخاطر التي يتعرّض لها الإعلاميون في سبيل كشف الإجرام الإسرائيلي للعالم، في ظروف تفضح نهجه في استهداف العاملين على نقل الحقيقة.

 ما كان هؤلاء الصحفيون مراسلين بالمعنى التقليدي، بل شهود عيان على المجازر، على أطفال يُقتل بعضهم أمام كاميراتهم، وعلى مشاهد التجويع التي أنهكت الضمائر العالمية. كانوا ينقلون صور الموت والدمار التي تحاول إسرائيل خنقها بالقتل، موثّقين لحالات تجويع الأطفال التي ترتقي بالعشرات يومياً، وللحياة التي تُقتلع من تحت أنف العالم.

تجار الحرب يريدون أن تُطوى هذه الشهادة، لكن دماء أنس وزملائه تقول إن الحقيقة ليست تقريراً أو مشهداً إخبارياً لأحداث اعتباطية عبثية، بل صرخة إنسانية تحتضر.

في هذا العدوان، دُمّرت مئات من منازل الصحفيين، وخسر كثيرون عائلاتهم، لكنهم استمروا في نقل الإبادة بالصواريخ والتجويع رغم كل ذلك. القتل المتكرر والتضييق على حرية الصحافة يؤكّدان سياسة ممنهجة تستهدف تفكيك قدرة الإعلام المحلي على تغطية الأحداث الدامية والعمل على احتلال غزّة وتهجير سكّانها بصمت، وحرمان العالم من معرفة حقائق الحكومة الإسرائيلية المجرمة، التي طالما سوّقت للاحتلال وسوّق له الغرب دور الضحية.

سياسة إسرائيلية ممنهجة لإسكات الصحافة

استهداف الصحفيين لم يكن فعلاً عشوائياً أو نتيجة خطأ في الرصد. بل هو جزء من استراتيجية إسرائيلية متكاملة لمنع وصول الصور إلى الرأي العالمي العام. فإسرائيل تمنع دخول الصحفيين الأجانب إلى القطاع، وتستهدف بعنف الصحفيين المحليين الذين يبقون هناك رغم الخطر، فتقتلهم، تهددهم، وتدمّر مقار عملهم. هذه السياسة ترمي إلى احتكار السردية الإسرائيلية، وتقديم روايتها التي تخدم مصالحها وحكومة نتنياهو وعصابته لإثخان القتل والإبادة الجماعية.

وفي قلب هذا العدوان والإبادة، كان أنس الشريف رمزاً للشجاعة، فقد رفض مغادرة غزّة رغم تحذيرات أصدقائه وتهديدات المخابرات الإسرائيلية الصريحة بتصفيته، لأن بقاءه كان مقاومة بحد ذاتها، وحكاية عن تمسّك الفلسطينيين بحقهم ونقل قصّتهم وظلمهم ومأساتهم بأصواتهم.

الصحفيون بين الموت والتوثيق

أنس الشريف لم يكن وحده. ففي الأشهر الأخيرة، استشهد مراسلو الجزيرة مثل حسام شبات، فاطمة حسونة، سامر أبو دقّة، وإسماعيل أبو حطب، وحمزة الدحدوح، وإسماعيل الغول، وأحمد اللوح وهم يوثّقون لحظة بلحظة معاناة سكّان غزّة. هؤلاء الصحفيون لم ينقلوا أخبار الحرب بهذا المعنى المجرّد، بل حملوا على عاتقهم سرد قصص الأطفال المجوّعين الذين ينهارون تحت وطأة الحصار، والنساء اللاتي فقدن عائلاتهن، والبيوت التي تحولت إلى رماد.

لم يكن نقلهم للمجازر مهنة بالمفهوم العام، بل رسالة ونضال، كما كتب أنس في مذكّراته بتصرّف يسير:

«عسى أن يكون الله شاهداً على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكناً، ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعّثرت أشلاؤهم على الجدران. أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود».

هذه الكلمات كانت شعارهم، فحتى بعد استشهادهم، بقيت كاميراتهم تشهد على جرائم لا يدفع كلفتها غير الدم الفلسطيني.

إن نقل هذه الصور من الإبادة هو ضرب من ضروب النضال والمقاومة، حيث يصبح الإعلام سلاحاً ضد القتل والتشويه، ومرآة تكشف الوجه الإجرامي القبيح لدولة الاحتلال. في كل صورة، في كل تقرير، كان الصحفي الفلسطيني يقول للعالم: هذه ليست عناوين إخبارية، هذه دماء عربية فلسطينية؛ هؤلاء أطفال فلسطين سرق الاحتلال الحياة منهم بدموية ووحشية.

نداء للضمير الدولي

كنت أجلس مساء كل يوم، أترقّب تغطية أنس الشريف ومحمد قريقع عن أخبار غزّة الموجعة، عن أطفال يئنون من الجوع، وعن أُسرٍ تحصي شهداءها، وفي ذلك اليوم وكالعادة، جلست بانتظار تغطيتهم، وإذا بي أسمع تغطية عن ارتقائهم، عن رحيلهم الذي أبكاني كما أبكى الملايين من «المطحونين». لم تكن تقاريرا إخبارية، بل وداع لوجوه صارت رموزاً للحق في زمن ظلمة الاستبداد.

رحلت الوجوه، كما رحل كثيرون غيرهم في غزّة؛ بعضهم كانوا يناشدوننا وهم لا يعلمون أننا الموتى، أننا الأرقام في إحصائيات الشعوب؛ لا نتقن غير الإطراء ولا نعرف من كرامتهم غير القصيد والماء والثريد.

نهاية

ما لم يتحرك العالم بجدية لحماية الصحفيين وضمان حقهم في العمل بحرية وأمان، ستظل غزّة مسرحاً لمجزرة إعلامية وإبادة بشرية غير منتهية، وستظل شهادات هؤلاء الأبطال الذين ارتقوا حاضرة كنداء مُوجع، في حين يبقى آخرون من الصحفيين الفلسطينيين في حالة «شهيد مع وقف التنفيذ»، ينتظرون العدالة الإلهية بالحياة والحرية.

الدماء التي توثّق الجرائم لا تجف، والكلمات التي كُتبت بدماء الشهداء والنضال أكثر وقعا من الرصاص.

Ahmad.omari11@yahoo.de

 


الاثنين، 28 يوليو 2025

الضفة: من وهم ديني إلى تصويت الكنيست/أحمد سليمان العُمري

 بسم الله الرحمن الرحيم

الضفة: من وهم ديني إلى تصويت الكنيست


دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

منذ إعلان ما يُعرف بـ «صفقة القرن» عام 2020، التي صيغت في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دخلت الضفة الغربية مرحلة جديدة من الاستهداف السياسي، ومؤخّراً بتصويت الكنيست على مشاريع قوانين لضمّها رسمياً. ومع عودة الشخصيتين إلى الحكم في واشنطن وتل أبيب، عاد المشروع بروح أكثر إستيطانية، مدعوماً ببنية أمنية وتشريعية، تدفع نحو الضّمّ كأمر واقع لا كخيار سياسي.

أرض الآباء والأنبياء

لم يتوقّف اليمين الإسرائيلي المتطرّف عند حدود السيطرة الأمنية، بل لجأ إلى أدوات أيديولوجية لتثبيت وجوده في الضفة الغربية؛ يصفها بأنها «أرض الآباء والأنبياء»، وهو توصيف ديني، يُستخدم ضمن خطاب تعبوي يحاول فرض شرعية توراتية على واقع سياسي. ووفقا لاستطلاع أجراه مركز «نبض إسرائيل» في يناير/كانون الثاني 2025 فإن 71% من الإسرائيليين يُعارضون إقامة دولة فلسطينية، ويؤيّد قرابة 70% منهم فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، ما يعكس تحولاً لافتاً في بنية الخطاب السياسي والتوجه الشعبي الإسرائيلي.

هذا التوظيف الديني ليس جديداً، لكنه اكتسب بعداً أكثر خطورة في حكومة نتنياهو، التي تضم وزراء غلاة مُحترقون، والذين ينظرون إلى الضفة إلّا كمساحة جغرافية لتنفيذ المشاريع الصهيونية.

استيطان ممنهج ومصادرة واسعة

في النصف الأول من 2025، تم تسجيل توسّع استيطاني هائل في الضفة، فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أُعلن عن إقامة 22 بؤرة استيطانية جديدة، ومنذ بداية العام، صادرت إسرائيل نحو 40 ألف دونم، ليصل مجموع الأراضي المصادرة منذ تشكيل حكومة نتنياهو إلى 75 ألف دونم.

وفعليا، فإن عدد الوحدات الاستيطانية الجديدة تجاوزت 30 ألف وحدة، وهو رقم يكشف عن استراتيجية تسريع مدروس لتهويد الأرض، يترافق مع تغييرات جغرافية وديموغرافية واسعة، تهدف إلى خلق واقع يمنع أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

المستوطنون والجيش

الاعتداءات اليومية من قبل المستوطنين على القرى الفلسطينية في الضفة الغربية تحوّلت إلى نمط ثابت، تُغذّيه شراكة غير معلنة مع الجيش الإسرائيلي. في بلدات مثل قرية سنجل، الطيبة، البرقا، سوسيا والمغيّر ومسافر يطّا وخِرَب الخليل، شنّ ويشنّ المستوطنون هجمات منظّمة، أسفرت عن مقتل فلسطينيين، وحرق منازل وممتلكات وتهجير دون محاسبة.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فقد تم توثيق ما يقارب 740 هجوماً من المستوطين ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم منذ مطلع 2025؛ تمخّض عنها شهداء واستيلا على أراضيهم وسرقة مواشيهم بالآلاف أو قتلها.

الهدف من هذا الترهيب هو دفع الفلسطينيين إلى النزوح الطوعي، وبالتالي تسهيل السيطرة الكاملة على الأرض.

الرؤية الأمريكية الجديدة

لم يعد الدعم الأمريكي لإسرائيل مقتصراً على الغطاء الدبلوماسي، بل تحوّل إلى خطاب يكرّس الرواية الإسرائيلية وينكر النقيض الفلسطيني. فقد صرّح السفير الأمريكي لدى إسرائيل، «مايك هاكابي» في مقابلة علنية 2008 خلال حملته الإنتخابية «لا يوجد فعليا ما يُسمّى شعباً فلسطينياً، فهذه الهوية طُوّرت كأداة سياسية لانتزاع الأرض من إسرائيل» وأعاد تصريحه مجددا بشكل آخر، وهو تصريح يتجاوز حدود اللباقة الدبلوماسية بكثير، بل هو إنكارا فجّاً لوجود شعب يمتدّ تاريخه لآلاف السنين، مقابل كيان استعماري لا يتجاوز عمره ثمانية عقود، ما يجعل هذا التصريح امتداداً لفكر استعلائي استعماري لا يختلف عن نظريات محو الشعوب في أكثر لحظات التاريخ سواداً.

في ظل السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والدعم الأمريكي الواسع، تشير المعطيات السياسية إلى أن هناك احتمالية كبيرة لأن تعكف إدارة ترامب على إعداد خطة رسمية للاعتراف بالضم الكامل للضفة الغربية، ضمن صفقة شاملة تشمل دعماً اقتصادياً إضافياً ومبادرات تطبيع إقليمي موسّعة. ما يعني أن تصويت الكنيست على الضّمّ، وما يدور الآن من إبادة جماعية في غزّة وهدم منازل واعتداءات وقضم أراضي شاسعة في الضفة، هو فعلياً تطبيق لخطة ترامب التي اقترحها في 2020، والمعروفة بـ «صفقة القرن»، والتي تشكّل اليوم الأرضية السياسية والقانونية التي تُمهّد لتكريس هذا المشروع الاستعماري بأشكاله الحديثة.

تشريع الضّمّ

لقد بدأ التوجه التشريعي منذ زمن، إذ بدأت إسرائيل بطرح 22 مشروع قانون في الكنيست تهدف إلى ضم الضفة الغربية بشكل رسمي. أحد هذه القوانين تم التصديق عليه، ويتعلّق بإلغاء الانفصال عن شمال الضفة الغربية وقطاع غزّة، وهذا قبل العدوان الإسرائيلي على غزّة، حسب الخبير بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى، بما يفتح الطريق أمام فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة؛ ضمن سياسة «فرض القانون الإسرائيلي على الأراضي المحتلة»، وهي مخالفة للقانون الدولي، وتحديداً اتفاقية جنيف الرابعة؛ القوانين التي تضربها إسرائيل بعرض الحائط.

تتجه الأنظار إلى العلاقة بين نتنياهو وحلفائه في اليمين المتطرّف، الذين يضغطون عليه لإكمال مشروع الضّمّ، وكخطوة بديهية يستخدم نتنياهو هذه الضغوط كورقة تفاوض للضغط على إدارة ترامب للاعتراف بالضّمّ، كما فعل حين اعترف الأخير بالقدس الشرقية عاصمة لإسرائيل.

سيناريوهات المستقبل

ضم تدريجي بصمت دولي، واستمرار القضم القانوني للأرض الفلسطينية تحت ذرائع أمنية وإدارية.

ردود فعل فلسطينية مقاومة مع تزايد احتمال اندلاع انتفاضة جديدة في ظل انسداد الأفق السياسي.

تصدّع الموقف العربي الرسمي وإحراج الدول المطبّعة، دون تغيير حقيقي في المواقف.

ازدياد العزلة الإسرائيلية، وعقوبات شكلية من الاتحاد الأوروبي دون خطوات فعلية.

الضفة أمام لحظة حاسمة

المشهد في الضفة الغربية في طريقه إلى تحوّل نوعي في بنية المشروع الصهيوني؛ يعتمد اليوم على أدوات قانونية وتشريعية تُصاغ داخل الكنيست، وتتغذّى من خطاب ديني متطرّف مرفوق بالدعم الأمريكي غير المسبوق. في ظل هذا الواقع، تبدو الدولة الفلسطينية أبعد من أي وقت مضى، بينما الأرض تتآكل تحت أقدام أصحابها، وتُعاد صياغة الجغرافيا ببنادق المستوطنين ووحشيتهم.

Ahmad.omari11@yahoo.de


الاثنين، 21 يوليو 2025

السويداء ضمن الخرائط الإسرائيلية الجديدة/أحمد سليمان العُمري

 

بسم الله الرحمن الرحيم


دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في ظل صيف ملتهب إقليميا، لم تكن الاشتباكات التي اندلعت في محافظة السويداء السورية مجرّد أزمة أمنية محلية بين قوات الأمن السوري والميليشيات الدرزية بإدارة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري، بل هي فصلا من مشهد إقليمي بالغ الدلالة، تُستخدم فيه الورقة الطائفية أداة لاختراق ما تبقى من سيادة الدولة السورية، وإعادة رسم الخرائط بما يوافق أهدافا إسرائيلية باتت تُعلن دون مواربة.

الاشتباكات التي اندلعت قبل أيام، وانتهت بعد تدخل الطائرات الإسرائيلية باستهداف هيئة الأركان ومحيط القصر الجمهوري في دمشق، كشفت عن حجم الاختراق الصهيوني للمعادلة السورية الداخلية.

لقد كان القصف خطوة محسوبة لفرض واقع سياسي وأمني جديد في الجنوب السوري، وهو ما تمخّض عنه اتفاق تهدئة أدى إلى انسحاب قوات الأمن السورية من محافظة السويداء؛ استجابة للوساطة الأمريكية العربية.

ما يجري في الإقليم اليوم ليس إلا فصلا جديدا من مشروع أكبر يُراد له أن يُفكك وحدة الدولة السورية، ويُغرق المنطقة في حالة دائمة من العجز عن تشكيل موقف موحّد أو ردع جماعي جرّاء تدخلات إسرائيلية مباشرة وصريحة في سوريا، حتى أصبح التدخّل يتكرر في وضح النهار، تحت أعين العالم، وفي صمت لافت من بعض العواصم المؤثّرة.

ورقة الطائفية

الزج بأسماء مثل الهجري وغيره، سواء كانوا مدفوعين أو مدفوعا بهم، ليس إلّا توظيفا لشخصيات محلية ضمن خارطة صراع إقليمي يُدار من خارج الحدود، ولا يمكن فصله عن مشروع إسرائيلي قديم متجدّد، يعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم أجندته وتفوقه، ويضمن تفتيت النسيج السياسي والاجتماعي من الأناضول إلى الخليج.

أما من يظن أن إسرائيل تتدخّل في سوريا لنجدة أحد من مكونات المجتمع، فهو إمّا غافل لا يدرك طبيعة هذا الكيان، أو أنه جزء من اللعبة ذاتها. إسرائيل لا تنصر عربيا ولا مسلما، ولا تدافع عن مظلوم، بل تقتات على القتل والفوضى والانقسام، وتستثمر في كل صراع داخلي لتوسيع نفوذها وتصفية حساباتها الاستراتيجية.

المعادلة أصبحت أكثر وضوحا: إمّا أن تقف مع الدولة السورية - رغم كل ما يمكن أن يُقال عنها - بما تمثّله من استمرارية للبنية السيادية، أو أن تبارك مشروع التقسيم والتفكيك الذي باتت أطرافه الإقليمية والدولية معروفة بالاسم والعنوان.

سوريا هنا ليست ساحة صراع، بل اختبار لحصانة الدولة العربية الحديثة في مواجهة الانهيار التدريجي.

ممر داود

لا ينفصل ما جرى ويجري عن الحديث المتكرر في الأوساط الإسرائيلية عن مشروع «ممر داود»، وهو المسار الذي أعلنته أدبيات صهيونية مبكرة. ففي مُذكّرات «حاييم وايزمان» (أول رئيس لإسرائيل) أشار إلى توجهات استراتيجية توسّعية للحدود، التي يراها الكيان الصهيوني طبيعية، تشمل مناطق واسعة تمتد من سفوح لبنان إلى أجزاء من سوريا، وذلك لضمان وجود دائم وآمن في المنطقة ضمن مشروع الحركة الصهيونية. 

ووقفا لتقارير وتحليلات عسكرية إسرائيلية منشورة في بعض الأوساط، يُعتقد أن الممر الشرقي «الآمن» يمتد من الجولان عبر السويداء إلى البادية السورية والأردن كجزء من مفهوم العمق الاستراتيجي.

أمّا «نتنياهو» فصرّح في ديسمبر/كانون الأول 2024 أن إسرائيل ستبقى في جبل الشيخ حتى يتم التوصّل إلى ترتيب آخر، بينما شدد وزير الخارجية «جدعون ساعر» الشهر الماضي على أن هضبة الجولان ستظلّ جزءا من إسرائيل في أي اتفاق سلم.

وفي سياق متصل، أعدت شبكة الجزيرة الإخبارية تحقيقا عن «ممر داوود»، إضافة إلى تقرير آخر نشره موقع «ذا كرادل» الإنجليزي في 4 نيسان/أبريل 2025، قال فيه إن الهدف الخفي لإعادة رسم المشرق يُصوَّر كمسار جغرافي استراتيجي، يمتد من الجولان السوري المحتل، مرورا بجنوب سوريا (السويداء ودرعا)، ثم عبر منطقة التنف والبادية السورية، وصولا إلى دير الزور والحدود العراقية ـ السورية ضمن مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ثم ينتهي في إقليم كردستان العراق.

وتكمن أهمية هذا الخط في ربط الجغرافيا المشتتة بقوس نفوذ إسرائيلي غير معلن، يعتمد على تحالفات محلية لتأمين المسار وتمرير السردية الاسرائيلية بعيدا عن العواصم الرسمية، وهو ما يُعد امتدادا عمليا لمفهوم «إسرائيل الكبرى» الذي يستند إلى رؤية توراتية للنفوذ من نهر النيل إلى نهر الفرات.

من الجولان إلى كردستان

من خلال ممر داود، يُراد السيطرة على المثلث الحيوي السوري - الأردني - العراقي، وربطه بنفوذ تل أبيب عبر تحالفات غير مُعلنة مع قوى محلية، تحت شعارات مثل «حماية الأقليات» أو «منع تمدد النظام السوري»، لكن الحقيقة أن ذلك يستهدف تفتيت الدولة السورية، وحرمانها من أي قدرة على تمكينها من الوحدة الوطنية مستقبلا.

التزامن بين ما يجري في السويداء، مع الأعمال الإسرائيلية الأخيرة بشأن قضم آلاف الدونمات في الضفة الغربية، وهدم المنازل الفلسطينية وبناء المستعمرات، يكشف عن خطة شاملة لا تستهدف فلسطين وحدها، بل كل ما تبقى من بنى سيادة عربية، وكأن المخطط الصهيوني قد بدأ بمرحلة التنفيذ الكامل، بعد عقود من التمهيد والحصار والإضعاف.

اللحظة الحرجة

في مواجهة هذا الواقع، لا مجال للحياد أو للقراءة العاطفية، فإمّا الوقوف في خندق حماية الدولة - أيًّا كانت تحفظاتنا عليها - أو أن نغرق في وهم الحياد، بينما يتآكل الوطن قطعة قطعة.

المشروع الصهيوني اليوم لا يُخفي نواياه، بل يمضي علنا في تنفيذ ما عجز عنه لعقود: تفكيك الدولة السورية، وضرب وحدة أراضيها، وتسويق الانقسام باعتباره «حقّا» لمكوّنات مجتمعية يتم تأهيلها سياسيا وعسكريا لتكون بديلا عن الدولة الأم.

الصراع في سوريا اليوم هو صراع مشاريع توسّعية وليس طائفية كما يروّج لها. مشروع الدولة الواحدة والسيادة المستقلّة، في مواجهة مشروع التفتيت والهيمنة، وهذا الصراع لم يعد مؤجّلا، بل يُحسم الآن؛ في الجولان، في السويداء، وفي كل حجر تهدمه الجرافات الإسرائيلية في فلسطين.

Ahmad.omari11@yahoo.de

الثلاثاء، 15 يوليو 2025

القرآن في الأدب الغربي ومشروع القرآن الأوروبي/أحمد سليمان العُمري

 

بسم الله  الرحمن الرحيم

 

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

المقصود بـ «القرآن الأوروبي» ليس وجود قرآن بديل أو مغاير للقرآن الكريم، بل هو مشروع بحثي يتناول تأثير النّصّ القرآني في الثقافة الأوروبية فكريا. يُركّز المشروع على دراسة تفاعلات الغرب مع القرآن الكريم من منظور إنساني، أدبي وتاريخي منذ العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر.   

في إطار مشروع بحثي أوروبي يحمل عنوان «القرآن الأوروبي»، يُنظر إلى القرآن الكريم في الغرب اليوم ليس فقط كنصّ ديني، بل كعمل شعري وجمالي أثّر بعمق في الأدب الأوروبي.

يتتبع هذا المشروع كيف تحوّل النص القرآني من مادة للجدل العقائدي إلى مصدر للإلهام الجمالي، انطلاقا من العصور الوسطى ووصولا إلى أواخر القرن التاسع عشر. من بين من تأثّروا به: «يوهان فولفغانغ فون غوته» (1749–1832)، «ألكسندر بوشكين» (1799–1837)، و «فيكتور هوغو» (1802–1885)، والذين مثّلوا نماذج فريدة قرأت القرآن على أنه طاقة لغوية وشعرية شاملة، لا مجرّد كتاب عقائدي.

غوته: القرآن كنص كوني

لم يقرأ «غوته» القرآن بوصفه كتاب عقيدة فحسب، بل بوصفه أثرا جماليا كونيا. ففي ديوانه الشهير «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» مزج بين الروح الإسلامية والرموز الشعرية الشرقية، مستلهما أسلوب القرآن وإيقاعاته وتعبيراته المجازية، معيدا تقديمه في ثوب شعري ألماني، من دون أن يمسّ قدسيته أو ينتهك حرمته.

دوّن غوته مقتطفات من سور قرآنية بيده في كُرّاسته المعروفة بـ «مقتطفات قرآنية»، كما خصّ النبي محمد ﷺ بصور مهيبة وراقية، يظهر فيها كرمز للعدل والتوحيد.

ويذكر الباحث« كارل - يوزيف كوشِل» أن غوته رأى في الإسلام «دينا طبيعيا»، وفي القرآن «نبعا جماليا كونيا». وقد أقرّ على النبي محمد ﷺ خصاله النبيلة كالصبر، والتسامح، والانضباط الأخلاقي، كما يظهر في أبياته التي تحاكي السرد القرآني من حيث البناء والإيقاع.

ومن أشهر الأبيات التي يُستشهد بها في هذا السياق قوله: «فوق قمّتي لا سلطان، لكن فوق رأسي تتلألأ النجوم».

ويُعلّق «كوشِل» في كتابه «غوته والقرآن»، بأن هذا البيت مستوحى من التصوير الكوني في سورة الملك، ولا سيما الآيتين: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ۝ وَالَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾.

ويُضيف الباحث أن غوته لم يقتبس الآيات، بل استوحى منها نظرة كونية تجعل الإنسان جزءا صغيرا في بناء شاسع من الانسجام السماوي، وهذا ما عبّر عنه بما يمكن تسميته «توحيدا جماليا»، أي أن الكون كله يخضع لنظام إلهي يعكس بدوره البنية التوحيدية للإسلام.

هذا التأثّر القرآني تجلّى أيضا في رؤية غوته لفكرة التسليم لله، وهي جوهر الإسلام، فكتب في أحد المواضع: «إذا كان هذا هو الإسلام، أفلسنا جميعا مسلمون؟». وهو القول الذي أصبح يُستشهد به كثيرا في الأوساط الفكرية الغربية عند الحديث عن الحوار بين الإسلام والغرب، ويعكس فهما فطريا وعميقا للدين، من دون أن يكون غوته مسلما بالمعنى العقدي، بل مسلما بالمعنى الوجداني كما فهمه هو.

بوشكين: استحضار روح الإسلام

لم يكن «بوشكين» مسلما، لكنه تأثّر بروح الإسلام عبر ترجمات القرآن الفرنسية وبفعل جذوره من جهة جده «إبراهيم هانيبال»، الذي جاء من أصول إسلامية في إفريقيا. وقد ألّف قصيدة بعنوان «محاكاة من القرآن»، وقد نُشرت ضمن سلسلة شعرية عام 1824.

من أبياته يقول:

يا نبيُّ، قمْ،

فالصوت الربّاني يهتف بك...

شعاعك يُضيء الحُجب الثقيلة

وتشير الباحثة الأوزبكية «ألبينا رخمانوفا»، من المعهد التربوي الحكومي في «نوائي» أوزبكستان، إلى أن هذه الأبيات تستلهم بنية الخطاب النبوي في القرآن، وتستحضر أيضا صورة الوحي في سور مثل سورة المُزمّل:

﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، لكنها تقدمها بلغة الشعر الروسي لا بوصفها وعظا.

كذلك، وفي قصيدة «النبي» لبوشكين، يظهر صدى قرآني في هذه الأبيات:

وغرس إصبعاً في أذنيَّ...

فسمعتُ الأرض تهتف،

والسماءَ ترتّلُ بالحب والنار

وهي تُذكّر بالآية في القرآن، كما في سورة الأعراف: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾.

هوغو: النبي  كرمز إنساني سامٍ

في قصيدته المؤثّرة «السنة التاسعة للهجرة»، يقدّم «هوغو» صورة النبي محمد ﷺ وهو يُستَأذن من قِبل مَلَك الموت. يقول في أحد أبياتها:

وإذا ببابه يُطرق...

لم يكن لصّا ولا ملاكا ساجدا،

بل الموت يطلب الإذن بالدخول

هذه الصورة، وبحسب الباحث الفرنسي «لويس بلان» في كتابه «فيكتور هوغو والإسلام»: «من الرؤية الاستشراقية إلى التبجيل النبوي، تعبّر عن اقتراب الشعر الأوروبي من المفهوم القرآني للروح والبعث، كما ورد في سورة الزمر: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾. وفي قصيدة "شجرة الأرز"، يستخدم هوغو عبارة مستلهمة من سورة الزلزلة: "إذا زُلزلت الأرض، فذاك نداء العدل الذي طال حَجبه، لا صرخة الخراب بل صوت القيامة العادلة"».

ويُظهر هذا البيت وعيا دقيقاً من هوغو بأن الإسلام يحمل رسائل عدالة واجتماع، لا تهديدا كما أراد بعض المستشرقين تصويره.

بين الذروة الأدبية والانحدار السياسي

لقد بدأ التأثّر بالقرآن الأوروبي كفضول ثقافي ونقاش فلسفي، ثم انكمش في ظل الخطاب السياسي الاستعماري الذي ربط الإسلام بالتخلّف والعداء، لكن ما قدمه غوته، بوشكين وهوغو، كان خارج هذا السياق، كأصوات استثنائية في مجتمعاتهم؛ نقلت الإسلام من الخصومة العقائدية إلى التقدير الجمالي.

من النص إلى القصيدة

لم يُعد هؤلاء الأدباء كتابة القرآن الكريم، بل أعادوا اكتشافه كلغة شعرية أخلاقية وإنسانية، فقد مزجوا بين الجمال والإيمان، وجعلوا من النّصّ القرآني مصدر إلهام أخلاقي وفني.

ويؤكّد مشروع «القرآن الأوروبي» أن هذه النماذج لم تكن حالات استشراق، بل أمثلة على حوار حضاري حقيقي، قُدّم القرآن الكريم فيه بتجربة غوته وبوشكين وهوغو كجسر بين الشرق والغرب وليس كصراع.

لم يُعد هؤلاء الأدباء كتابة القرآن الكريم، بل أعادوا اكتشافه كلغة شعرية أخلاقية وإنسانية، فقد مزجوا بين الجمال والإيمان، وجعلوا من النّصّ القرآني مصدر إلهام أخلاقي وفني.

ولكنني لا أرى أنه من الممكن استعادة هذا المفهوم، الذي تبناه حتى العقد الرابع من هذا القرن أبرز المستشرقين الألمان، وخاصة في الدراسات القرآنية «ثيودور نولدكه» من خلال المقاربات الأكاديمية واعجابه الشديد باللغة العربية وثرائها، وخصوصا في القرآن الكريم.

أمّا الآن في عالم تتصاعد فيه الانقسامات وشريعة الغاب والاستعلاء، التي تتعامل بها أمريكا وأوروبا وجُلّ الدول الغربية تجاه الدول الإسلامية، ولا نستطيع في أي مقالة أدبية، فكرية أو سياسية استثناء ما يدور في غزّة، جرّاء الفكر الغربي الإستعماري المُمتد من الحقبة الإستعمارية إلى يومنا هذا؛ من دعم لإسرائيل بشرعنة القتل والإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين بمسوّغات أقبح من أصحابها وأشد وطأة من جيوشهم في بلادنا.

Ahmad.omari11@yahoo.de

الاثنين، 23 يونيو 2025

قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت/أحمد سليمان العُمري

بسم الله الرحمن الرحيم

 


دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزّة، لكنهما اصطدما بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصّة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حرّاساً لهذا السجن الكبير.

الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي

«تياغو» البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة «مادلين» ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض. «كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة»، يقول بصوت يرتجف، «عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطولاً عسكرياً وليس متطوعين يحملون أدوية الأطفال».

بين الأمل والقمع

انطلقت السفينة من ميناء «كاتانيا» في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية «غريتا تونبيرغ» والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.

هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوّية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزّة، ففي التاسع من يونيو، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، حيث واجه الناشطون ظروفا قاسية من الحجز والتفتيش المشدد، في محالة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.

حيث يُسرق الحليب باسم السيادة

بينما كانت الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزّة، جرى اعتقاله مع بقية زملاءه الشجعان بوحشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى كونهم ناشطين إنسانيين؛ جاءوا بصفتهم المدنية لا كمقاتلين.

معاناة هؤلاء الشبان بالرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثًا معزولًا، بل امتداد لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً.

من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركي وألماني وإسباني وهولندي... الخ الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوّهت سمعتهم لأنهم فقط تجرّؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.

وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرّض الناشطون من «مسيرة غزّة» للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من «المواطنين العاديين»، وليس من الدولة.

لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري - وهو الزخم العارم لفلسطين - قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.

بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين: شعوبٌ تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمةٌ تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكّد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.

وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، مما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال.

هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكّد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزّة، كما تؤكّد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياه المصيرية.

الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.

أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة. 

الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم

الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.

أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة.

قافلة الصمود رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة «ماديلين» والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزّة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد.

إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحوّل الأرض كلها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.

Ahmad.omari11@yahoo.de


إسرائيل وإيران: الحرب المنتظرة تغيّر الشرق الأوسط/أحمد سليمان العُمري

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة، شنت إسرائيل هجوماً جوياً واسع النطاق؛ استهدف مواقع عدة داخل إيران، في خطوة وصفتها تل أبيب بأنها "ضربة استباقية لمنع التهديد النووي الإيراني".

ردّت طهران بإطلاق عشرات الصواريخ الباليستية على أهداف إسرائيلية، في تصعيد جديد يهدد استقرار الشرق الأوسط. يأتي هذا التفاقم في ظل توترات متصاعدة بين البلدين منذ سنوات، وسط محاولات إسرائيلية متكرّرة مُمنهجة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، ورفض إيراني مستمر لأي تدخّل خارجي في شؤونها السيادية.

الضربة الأولى

وفق بيان رسمي صادر عن المتحدث بإسم جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الجمعة (13 يونيو 2025)، شاركت 200 طائرة حربية من طرازات (F-35 وF-15i وF-16i) في الهجوم على إيران، واستهدفت أكثر من 100 موقع في عمق البلاد، أبرزها منشأة "نطنز النووية"، ومواقع عسكرية في إصفهان وطهران، وأكثر من 300 قنبلة موجهة من نوع JDAM)) أُسقطت، كما استخدمت ذخائر خارقة للتحصينات لضرب البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني.

صور أقمار صناعية نشرتها «أسوشيتد برس» بعد ساعات من الغارات، أظهرت دماراً كبيراً في بعض مراكز التخصيب، فيما أعلن معهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن (CSIS) أن الهجوم «ألحق ضرراً كبيراً بنسبة تقترب من 40% في مرافق نطنز وآراك النووية».

استراتيجية الصدمة الصاروخية

في صباح اليوم التالي، أطلق الحرس الثوري الإيراني أكثر من 150 صاروخاً باليستيا من طراز «خيبر شكن» و«ذو الفقار» و«قيام»، استهدفت قواعد جوية إسرائيلية في النقب والجليل، إضافة إلى منشآت حيوية في ميناء حيفا ومنطقة تل أبيب.

الجيش الإسرائيلي أعلن أن منظومة «القبة الحديدية» اعترضت حتى البارحة حوالي 90% من الصواريخ، لكن الصدمة الاستراتيجية كانت في قدرة إيران على الوصول العلني والعنيف إلى العمق الإسرائيلي. القصف خلّف وفق مصادر مختلفة 24 قتيلا وقرابة الـ 600 جريح؛ كثيرها حرجة، إلى جانب خسائر مادية في البنية التحتية.

الهروب إلى الأمام في ظل المحاكمة

في قلب هذا التصعيد، بدا واضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يخوض الحرب فقط ضد البرنامج النووي الإيراني، بل أيضاً ضد أزماته السياسية والقضائية الداخلية. نتنياهو، الذي يواجه 5 قضايا فساد أمام محكمة القدس المركزية، يعيش عزلة سياسية متزايدة حتى من داخل معسكره اليميني.

وثيقة مسرّبة نشرتها صحيفة «هآرتس» أكّدت أن أحد أهداف التصعيد الحالي هو «خلق واقع أمني استثنائي يؤجّل الإجراءات القضائية»، إضافة إلى استطلاع حديث نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي أظهر أن شعبية نتنياهو هبطت إلى 31%، في ظل اتهامات له باستخدام ذريعة «التهديد النووي الإيراني» كوسيلة للبقاء في السلطة.

صناعة التصعيد

في مشهد يعكس تحولات عميقة في وظيفة الحرب الإقليمية، بات واضحا أن نتنياهو يستخدم التصعيد مع إيران كأداة استراتيجية للهروب من أزماته الداخلية، فهو الأخير يرى في إقحام إسرائيل بحرب مع جبهة فعّالة لتأجيل محاكمته وكسب غطاء سياسي وشعبي متجدد، حتى لو كان الثمن زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. وبحسب تسريبات كشفتها صحيفة هآرتس، قال نتنياهو في جلسة مغلقة: «المعركة مع إيران هي معركتي الشخصية للبقاء خارج الزنزانة رقم 5 في سجن مجيدو».

وبينما تحاول تل أبيب تسويق ضربتها لإيران بذريعة واهية، ممّا يضعها في خانة الذرائع السياسية لا التهديدات الاستراتيجية الواقعية. وقد سبق لإسرائيل أن استخدمت منطق «الضربة الاستباقية» مرات عدّة، ليس فقط ضد طهران بل أيضاً ضد بيروت وبغداد ودمشق، في سياسة توسعية هدفها إعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي.

في المقابل، لا تبدو إيران راغبة في توسيع رقعة المواجهة، وقد جاء الرد الإيراني بعد ساعات قليلة من الهجوم الجوي الإسرائيلي المكثّف، لكنه اتسم لغاية الآن بضبط النفس الإستراتيجي، وهو ما يشير إلى رغبة طهران في الحفاظ على نوع من الردع المحدود ودون إحداث دمارا واسعا، كما فعلت الغارات الإسرائيلية التي راح ضحيتها قرابة 600 شخصا، منهم قادة عسكريون بارزون وإصابة ما يربو على 1481 معظمهم مدنيون. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام تستند إلى تقارير منظّمات حقويقة مستقلة.

إيران، رغم صلابة خطابها الرسمي، لا ترى في الحرب حلاً، لكنها تدرك تماماً أن الصمت في وجه اختراق سيادتها هو تفريط بأمنها القومي.

هنا يتضح أن خلط السرديتين - كما تحاول بعض الأطراف تصويره - لا يخدم الحقيقة، فإسرائيل اليوم بقيادة نتنياهو، هي الطرف المبادر بالعدوان، وهي من يحمل أجندة توسعية واضحة تسعى لإعادة صياغة المعادلة الإقليمية تحت غطاء «الدفاع عن النفس». أما إيران، فهي تتحرّك في إطار دفاعي، وإن بوسائل هجومية، لردع تهديدات وجودية طالت عمقها الاستراتيجي.

ما الذي تريده إيران بعد الضربة؟

الخيارات المتاحة أمام طهران تتوزّع بين التصعيد المنضبط وبين استثمار الضربة لتعزيز شرعيتها النووية؛ تصعيد محسوب: استمرار الردود الصاروخية دون الوصول إلى حرب شاملة، فضلا عن دبلوماسية هجومية تُوظِّف العدوان الإسرائيلي في المحافل الدولية للانسحاب من التزاماتها النووية تدريجيا.

في سياق توحيد الداخل الإيراني، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإيراني (INSS) ورقة تحليلية قالت فيها إن «إيران الآن أكثر حرية في تجاوز خطوط التخصيب، تحت غطاء الردع والدفاع عن السيادة».

الموقف العربي

المواقف العربية اتسمت بالحذر، فالسعودية امتنعت عن الإدانة المباشرة، لكنها دعت إلى «ضبط النفس»، بينما زادت إنتاج النفط إلى 10.9 مليون برميل لتعويض تقلبات السوق، وهو أعلى مستوى منذ 2021، بينما الإمارات أدانت الضربات على المدنيين الإيرانيين، وأبدت استعداداً للوساطة.

أمّا البيان المصري فقد غلب عليه التموضع المحسوب بدعوته إلى «العودة للمسار الدبلوماسي»، فيما جاء البيان العراقي بنبرة باهتة وتحفّظ ملحوظ دون تحميل أي طرف المسؤولية.

في العمق، تدرك الأنظمة العربية أن الانحياز الصريح في هذه المواجهة قد يكلّفها كثيراً؛ إقليميا واقتصاديا، خاّصة مع هشاشة الوضع في أسواق النفط والطاقة، وقد أغلق الاحتلال الإسرائيلي حقل «ليفياثان» البحري، ما أدى إلى وقف ضخ الغاز إلى كل من مصر والأردن.

حرب لا مفرّ منها

قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية، فوجود شخصيات مثل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير على رأس سلطة القرار، يجعل الحرب القادمة شبه حتمية. وكما يقول المثل الأردني: «إذا ما تعكّرت ما بتصفى»، أي أن التوتر إذا لم يتصاعد لن يهدأ.

قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية، فوجود شخصيات مثل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير على رأس سلطة القرار، يجعل الحرب القادمة شبه حتمية.

وفي ظل غياب أفق لأي حل سياسي؛ دولياً أو عربياً، قد تكون الحرب المقبلة بداية النهاية للاحتلال الإسرائيلي نفسه، لا عبر مفاوضات أو ضغوط، بل عبر انهيار إسرائيل من داخلها.

فكل تأجيل للحرب، ليس سوى انتظار لها.

Ahmad.omari11@yahoo.de

Back to top ↑

كلمات من العمري

في بداية خطابي أشكر زائريّ ممن بحث عني بأسمي أو دخل منزلي صدفة فراق له البقاء. وجزيل شكري لكل أصدقائي وأحبتي ممن يعملوا في الخفاء لنشر كلماتي دون تقديم أشخاصهم، إيمانهم بها أو بي وإن زل قلمي حيناً يقينهم إذعانَ قلبي وعقلي لها. لقد ترددت كثيرا قبل أن أفتح هذا الباب الذي عمل عليه صديقي الأستاذ أنس عمرو وصديقي الدكتور ضياء الزعبي - جزاه الله كل الخير- ولم يتركني حتى كَمُل على وجه رضيناه للأخوة القراء الكرام ... المزيد
كن على تواصل واتصال معنا

© 2018 أحمد سليمان العمري.
Design By: Hebron Portal - Anas Amro .